تسويق الفكرة أكثر صعوبة من تسويق مُنتج ملموس؛ وذلك لأن البشر يختلفون في دوافعهم لتبني الأفكار، فنجد منهم صنفا عاطفيا
يحتاج إلى خطاب رقيق مملوء بالعاطفة الجياشة كي يقتنع ويتأثر، البعض الآخر يحتاج إلى خطاب عقلاني مُقنع، صنف ثالث يميل إلى الاقتناع بما يقتنع به الجمهور أو ما يُعرف بثقافة القطيع، صنف رابع يميل إلى الاقتناع فقط بالشيء الذي يحقق له مصلحة ما وتحتاج كي تقنعه إلى أن تضرب على وتر المنفعة المتحققة العام منها أو الخاص.
إن فنّ التأثير والإقناع قديم قِدم الأزل، كان يُطلق عليه سابقا "علم البيان" أو "الفصاحة"، وهو الطريقة التي يمكننا من خلالها التأثير على أفكار الآخرين ودوافعهم، وسلوكهم، ولقد صار هذا الأمر اليوم علماً، فمع تعقّد الحياة، وكثرة الرسائل التي يراها ويواجهها الإنسان يوميا، أصبح أمر إقناع الآخرين برسالة دون أخرى أمراً صعبا، ويحتاج إلى أشخاص محترفين.
وفي الحقيقة فإن صاحب الرسالة يجب أن يتعلم الأسس والخطوات العلمية لتوصيل فكرته واضحة وجلية إلى الآخر، بحاجة إلى أن يتعلم الأساليب التي تُسهل من اختراق عقل ووجدان الآخر، وإصابته في المكان الصحيح، يجب على صاحب الرسالة كذلك أن يكون أكثر قدرة على ضبط نفسه، وتطويعها على طول النفَس، والصبر الجميل، والهدوء المتزن وهو يحاول إقناع الآخر بفكرته.
والبشر تجاه فكرتك ثلاثة أصناف رئيسية:
صنف مؤيد، وآخر معارض، وصنف أخير غير مهتم، وذكاؤك يتأتى بمعرفة محاورك وإلى أي صنف ينتمي، فإذا ما كان من الصنف الأول ظهر ذلك سريعا، وكفاك مؤنة الحديث والإقناع، أما إذا كان من الصنف الثاني، فيكون الحل الأمثل أن تحاول تحييده ما استطعت لذلك سبيلا؛ أي أن تجعله ينتقل من كونه عليك إلى كونه لا معك ولا عليك، من كونه ينقدك إلى كونه يتوقف عن نقدك.
أما هدفك مع الصنف الثالث (المحايد) فيكون بإقناعه إلى أن يصبح مؤيدا، ومتحمسا، ومؤمنا بالفكرة.
نخطئ كثيرا عندما نُحدّث أنفسنا، ونملأ مؤتمراتنا ولقاءاتنا بأتباعنا ومن يؤيدنا، فنفرح بهزّ الرأس، وإيماءة الموافقة، ولا ندرك أننا كمن يضيء مصباحا والشمس ساطعة؛ وذلك لأن الفكرة أصلا واضحة وجلية في عقول هؤلاء.
نخطئ كذلك عندما نتعامل مع المعارض للفكرة وهدفنا الأول والأخير والوحيد إقناعه بها رغم صعوبة ذلك، فنُصعّب على أنفسنا الأمر، ولا نصل إلى أي فائدة تُذكر.
والذكاء أن أحدد هدفا واقعيا أصل إليه في حواري مع الشخص الذي أودّ إقناعه بالفكرة.
ثم نبدأ بعد ذلك في بعض الخطوات العملية كي نقنعهم بقوة فكرتنا وأصالتها، هذه الخطوات تتلخص فيما يلي:
1. إخلاص النية: هذه أول وأهم وأخطر الاستراتيجيات؛ وذلك لأننا مع الأسف وعندما نتحاور مع الآخر ننحى بحوارنا إلى شخصنة القضية المثارة، ويصبح أمر إقناعه أو عدم إقناعه مسألة شخصية، وهذا أخطر عائق يواجهنا.. إخلاص النية يا صاحبي يدفعك إلى أن تتحمل ما قد لا تتحمله لو كنت تتحدث عن قضية شخصية تمسّك، ستستشعر وأنت تبلع الكلمات أو الشبهات التي يواجهك بها محاورك بنوع من الرضا الروحي؛ نظراً لكونك تصمد وتصبر من أجل قضيتك، ومرضاة لها.
ستبتسم في الوقت الذي تودّ فيه أن تحطم أنفه، تتحدث بهدوء وروية وقد كان باستطاعتك أن تشد أحبالك الصوتية إلى منتهاها، وتزعجه بصوتك العالي، وحديثك المنفعل، إخلاص النية محوار مهم جدا كي تكون أكثر اتزانا، وهدوءا، وقوة.
2. افهم وجهة نظر الآخر: المحاور الجيد مستمع جيد، وإقناعك للآخر يحتاج منك أولاً أن تتفهمه، وتتفهم الدوافع والأسس والحجج التي يؤمن بها، وكذلك الشبهات والحجج التي تجعله يتخذ من قضيتك موقفا مخالفا.
اتركه يتحدث، ولا تصادر حقه في إبداء وجهة نظره أو قناعته الشخصية، مهما بدا لك سخفها وسوؤها وهشاشة بنائها العقلي والمنطقي؛ لأنه مع ضعفها أمام منطقك قد تكون صلبة وصلدة في عقل الآخر، والذي -كما قلت سابقا- قد يتعصّب لها من باب العاطفة أو المنفعة.
فهمك لوجهة نظره حتى وإن لم تتقبلها، ينقلك إلى النقطة الثالثة بذكاء.
3. الوقوف على مناطق الالتقاء: عندما تستمع إليه، ستحدد بدقة شيئين، أولا مناطق الاختلاف والتصادم، وثانيا مناطق الالتقاء ونقاط الاتفاق، والتي يمكنك أن تتخذ منها متكأ للانطلاق إلى إقناعه بما تريد، أو إذابة جبل الجليد بينكما.. إن قدرتك على صياغة خطابك صياغة إيجابية وتنطلق بمحاورك إلى الأمام يخفف كثيرا من حدة الصدام والشقاق، إننا كثيرا ما نُهمل أن بيننا وبين مخالفينا مناطق الْتقاء وموافقة، ونظن أن اختلاف أيديولوجياتنا وقناعاتنا يستتبع اختلافا في كل التفاصيل والرؤى، وهذا ليس بصحيح، بل يمكنك بشيء من التدبير والتأمل أن تقف على نقاط الْتقاء، تقف عليها وتأخذ بيده؛ كي يستمع إلى ما تودّ إسماعه إياه.
4. سلّم له بنقاط القوة لديه: لا يدفعك الخلاف إلى أن تخالف العقل والمنطق والصواب، إذا ما كان لمحاورك وجهة نظر، أو حُجّة، أو نقاط قوة فالأفضل أن تكون مُنصفا وتُسلم له بصحة ما يقول، ووجاهة رؤيته أو تحليله، يساعد هذا كثيرا على إظهارك بمظهر المُنصف العدل، وكذلك يضعه في موقف حرج إذا لم يُسلم هو الآخر بصحة موقفك ووجاهته.
5. قُلْ ما يناسب محاورك: ربما تكون لديك حجج كثيرة مُقنعة، أنت لست بحاجة إلى قولها كلها، يمكنك إن أسهبت في ذكر جميع الحجج أن تُغرق من أمامك -سواء كان شخصا أو مجموعة- في بحر من الشواهد والحقائق التي قد تضرّ إذا كثرت عن الحاجة، اذكر له فقط الشواهد أو الحجج التي تناسب عقل محاورك، وتناسب كذلك الموقف الذي أنت فيه.
6. تأكّد من مصادرك: لا تأخذك الحماسة لنقل معلومة، أو قول، أو ذكر إحصائية أو خبر أنت لست متأكدا منه، ستكون ضربة قاصمة إذا ثبت عدم دقة استدلالك، لذلك كن دقيقا جدا في مصادرك، ويا حبذا إذا ذكرت مصدر معلوماتك.
7. وختامها ليكن مسكا: وأنت تختم حديثك حاول أن تلخّص وجهة نظرك، مؤكدا على ما اكتشفته من تقارب في الرؤى والأفكار، لا تدع محاورك حائرا في مغزى كلماتك، ومضمون الرسالة التي تودّ إيصالها إليه، بكلمات موجزة وبليغة كرر على مسامعه ما حاولت تبيانه له خلال حوارك معه.
هذه سبعة قواعد رئيسية تلعب دورا كبيرا في إقناع محاورك، لكنك قبل كل هذا بحاجة إلى أن تقرأ محاورك أو جمهورك جيدا، لتعرف هل هو عاطفي أم عقلاني، متعصب أم منصف، ضدك أم محايد؟؟
خبراء التسويق يلجئون في كثير من الأحيان إلى "أسلوب الخسارة" في التعامل مع عملائهم العاطفيين، يقصدون بذلك إشعار العميل بأن رفضه شراء سلعة ما يسوقونها قد يوقعهم لخسارة مزية ما يتمتعون بها، معتمدين على قاعدة نفسية تقول "لا أحد منا يحب أن يخسر أو يفقد شيئا"، ربما أتردد عندما يتعلق الأمر بربح، لكنني سأكون حريصاً عندما تخبرني بخسارة شيء ما، وبإحصائية قاموا بها استطاعوا أن ينتبهوا إلى أن الجمهور الذي ينتبه ويتجاوب مع إعلان يبدا بـ"لا تخسر فرصة العمر" أكثر من الذي يتفاعل مع إعلان يبدأ بـ"اغتنم فرصة العمر"!
ما أودّ قوله من حديثي في هذه النقطة أن التسويق الناجح لفكرة يحتاج إلى مهارة وذكاء وحِرفة، والنصر في لعبة العقول يكون في الغالب لمن يملك مفاتيحها.
منقول للافادة