الحضارة اليونانية
عرفت شواطئ بحر إيجة ظهور أولى الحضارات في الضفة الشمالية للبحر المتوسط ، عرفت أولى الحضارتين باسم المينوية و الميسينية. تلت الفترة الأولى ، عصر مظلم استمر حتى حوالى 800 قبل الميلاد. عرفت البلاد عهدا جديدا مع ظهور الحضارة اليونانية. كانت بلاد اليونان عبارة عن تجمع من المدن المستقلة ، قامت هذه المدن بإنشاء مستعمرات تجارية على طول البحر الأبيض المتوسط طول البحر الأبيض المتوسط ، كما قاومت محاولات توسع الفرس في المنطقة. شكلت ثقافة هذه المنطقة المنبع الرئيس للحضارة الهيلينية ، انتشرت هذه الحضارة في أرجاء واسعة من العالم بعد قيام إمبراطورية الاسكندر الأكبر الـمقدوني).
عسكريا بدأ نفوذ اليونانين يتضائل ، سنة 168 قبل الميلاد قام [الرومان] بغزو البلاد ، إلا أنه وفي المقابل فإن الثقافة اليونانية غزت الحياة الرومانية بشكل كبير. أصبحت اليونان محافظة ضمن الإمبراطورية الرومانية ، واستمرت الثقافة اليونانية في هيمنتها على شرقي البحر الأبيض المتوسط. عندما إنقسمت الإمبراطورية إلى شطرين ، أصبح الشطر الشرق أو الإمبراطورية البيزنطية ، ومركزه في القسطنطينية ، يونانيا خالصا في طبيعته ، وبالأخص عندما ضم إليه كامل مناطق بلاد اليونان. من القرن الـ4 م وحتى القرن الـ15 نجحت الإمبراطورية الرومانية الشرقية في صد كل الهجمات الآتية من الغرب والشرق. سقطت القسطنطينية أخيرا في 29 مايو/ماي 1453 م عندما فتحها العثمانيون. كان العثمانيون قد أتموا فتح بلاد اليونان أثناء القرن الـ15 م.
حكم العثمانيون [اليونان] حتى أوائل القرن الـ19 م. سنة 1821 م قام اليونانيون بالثورة وأعلنوا سنة 1822 م استقلالهم، إلا أنه لم يتم الاعتراف به حتى سنة 1832 م. أثناء القرنين الـ19 والـ20 م، دخل اليونانيون في سلسلة من الحروب مع العثمانيين، أراد اليونانيون توسيع رقعة دولتهم حتى تشمل كل السكان الناطقين باليونانية ، تقدمت عملية التوسع ببطئ شديد حتى بلغت اليونان حدودها الحالية سنة 1947 م.
تاريخ الحضارة اليونانية
بلغت الثقافة الأوربية قمة مجدها في بلدين: اليونان القديمة و إيطاليا في عهد النهضة. ولم تكن تعتمد في كلا العهدين على نظام سياسي أكبر من دويلات المدن. ويغلب على الظن أن الأحوال الجغرافية قد أعانت بلاد اليونان على أن تصل إلى هذه النتيجة. ذلك أن الجبال ومجاري المياه تعترض السائل فيها أينما ذهب ؛ وكانت القناطر فيها قليلة والطرق وعرة وغير معبدة. نعم إن البحر كان طريقاً عاماً مفتح الأبواب ، ولكنه كان يربط المدينة بأخواتها من المدن التجارية لا بما يجاورها من المدن. على أن الأحوال الجغرافية لا تفسر وحدها قيام دول المدن ، فقد كان هناك من أسباب الانفصال بين طيبة و بلاتية القائمتين على نفس السهل البؤوتي بقدر ما كان بين طيبة و إسبارطة ؛ وكان بين سيباريس و كروتونا القائمتين على نفس الساحل الإيطالي من دواعي الانفصال أكثر مما كان بين سيباريس و سرقوسة. إن علينا أن نضم إلى العوامل الجغرافية عوامل أخرى كثيرة ، فاختلاف المصالح الاقتصادية والسياسية باعد بين المدن وجعلها يحارب بعضها بعضاً للحصول على الأسواق أو الحبوب ، أو تكون أحلافاً متنافسة للسيطرة على المسالك البحرية. ومن العوامل الأخرى التي ساعدت على هذا الانفصال اختلاف أصول السكان.
نعم إن اليونان كانوا يرون أنهم كلهم من عنصر واحد ، ولكنهم كانوا شديدي الإحساس باختلاف القبائل التي كانوا ينتمون إليها - الإيولية ، و الأيونية ، و الآخية ، و الدُّورية - ومن أجل ذلك كانت أثينا و إسبارطة تحقد كلتاهما على الأخرى حقداً لا يقل عن حقد العناصر المختلفة في هذه الأيام. وقوى اختلاف الأديان الانقسامات السياسية ، كما زادت هذه الانقسامات ما بين الأديان من اختلاف ، فقد نشأ من الطقوس الدينية التي اختصت بها بعض الأماكن أو بعض القبائل أعياد خاصة ، وتقاويم خاصة ، وعادات ، وشرائع ، ومحاكم تختلف باختلاف المدن ، بل إن هذه الطقوس قد أقامت في بعض الأحيان حدوداً بين المدن ؛ وذلك لأن أحجار التخوم كانت فاصلاً بين ممالك الإله ، كما كانت فاصلاً بين المجتمعات البشرية ، لأن من الواجب المحتوم أن يكون دين الإقليم هو دين حاكمه cujus regio, ejus religio. وكانت هذه العوامل مجتمعة هي وعوامل أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها هي التي أوجدت دول المدن اليونانية.
ولم يكن هذا طرازاً جديداً من النظم الإدارية، فلقد رأينا أنه كانت في بلاد سومر ، و بابل ، و فينيقية ، و كريت ، دول مدن قبل هومر وبركليز بمئات السنين أو آلافها ، وكانت دولة المدينة من وجهة النظر التاريخية هي بعينها مجتمع القرية في مرحلة من الامتزاج أو التطور أعلى من مرحلته القروية - كان لها سوقها المشتركة ، ومكان اجتماعها ، ومجلس قضائها للفصل في منازعات الأهلين الذين يحرثون ما يجاورها من أرض زراعية ؛ وكان أهلها من أصل واحد يعبدون إلهاً واحداً.
أما من الناحية السياسية فقد كانت دولة المدينة عند اليونان خير ما يستطيعون الوصول إليه من وسائل التوفيق بين العنصرين المتناقضين اللذين يتألف منهما المجتمع الإنساني ، واللذين يتناوبان الغلبة عليه ، ونقصد بهما عنصر النظام ، وعنصر الحرية ، فالمجتمع الصغير لا يأمن على نفسه من الاعتداء ، والمجتمع الكبير يصبح مجتمعاً استبدادياً.
وكانت أكبر أمنية للفلاسفة أن تتكون بلاد اليونان من دول - مدن مستقلة ذات سيادة تتعاون كلها داخل نظام فيثاغوري مؤتلف منسجم. وكانت فكرة أرسطو عن الدولة أنها جماعة من الأحرار يخضعون لحكومة واحدة ، ويستطيعون الالتقاء في جمعية واحدة ، وكان يرى أن الدولة إذا زاد عدد مواطنيها على عشرة آلاف تعجز على إدارة شئونها. ومن أجل هذا كان لفظ واحد - بوليس Polis- يطلق على المدينة والدولة في بلاد اليونان. وما من أحد يجهل أن هذا التفتت السياسي قد جر على بلاد اليونان كثيراً من المآسي بسبب ما قام بين أهلها وهم إخوة من نزاع. فقد خضعت أيونيا لسيطرة الفرس لأنها عجزت عن أن تتحد للدفاع عن نفسها ؛ وضاعت في آخر الأمر تلك الحرية التي كان اليونان يعتزون بها ويقدسونها ، لأن بلاد اليونان لم تستطع الثبات متحدة في وجه أعدائها رغم ما أقامته من أحلاف وعصب. ولكننا نعود فنقول أنه لولا دول - المدن لما كانت بلاد اليونان ، ولولا شعور اليونان بالفردية المدنية ، واعتزازهم الشديد باستقلالهم ، ولولا ما كان بين أنظمتهم وعاداتهم وفنونهم ، وآلهتهم من تباين ، لما كان ما بينهم من تسابق وتنافس حافزاً لهم على أن يحيوا حياة إنسانية كاملة فيها من الحماسة والإبداع ما لا نظير له في أي مجتمع آخر. وهل في وقتنا الحاضر نفسه رغم ما فيه من حيوية وتنوع ، وما يمتاز به من آلات ضخمة وقوى جبارة ، مجتمع في حجم المجتمعات اليونانية أو في عدد سكانها يستطيع أن يهب المدينة من النعم قدر ما وهبتها حرية اليونان المضطربة التي كانت هي والفوضى سواء.
الفلسفة
الكتابة
إن في حياة الدول ذات النزعة الانفصالية القوية ، عدة عوامل مشتركة ، منها أننا نجد في شبه جزيرة اليونان كلها منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد لغة واحدة تنتمي إلى مجموعة اللغات "الهند- أوربية" التي تشمل الفارسية و السنكسريتية ، و السلافونية ، و اللاتينية ، و الألمانية ، و الإنجليزية. وإنا لنجد لآلاف الكلمات التي تعبر عن العلاقات الأولية في حياة الناس ، أو عن الأدوات التي كانوا يستخدمونها ، أصولاً مشتركة في هذه اللغات جميعها ، وهي لا تدل فقط على قدم مسميات هذه الكلمات وانتشارها في البلاد التي تنطق بهذه اللغات ، بل تدل كذلك على ما بين الشعوب التي كانت تستخدم هذه المسميات في فجر التاريخ من قرابة أو رابطة. نعم إن اللغة اليونانية قد تشعبت لهجات مختلفة- الإيولية ، و الدورية ، و الأيونية ، و الأتكية ؛ ولكن الناطقين بهذه اللهجات المختلفة كان يفهم بعضهم بعضاً ، ثم خضعت كلها في القرنين الخامس والرابع إلى لهجة مشتركة koine dialektos انبعث معظمها من أثينا ، وكانت تنطق بها الطبقات المتعلمة كلها تقريباً في العالم اليوناني بأجمعه.
وكانت اللغة اليونانية الأتكية لغة جزلة ، قوية مرنة ، حلوة النغم ، فيها من الشذوذ مثل ما في أية لغة حية ، ولكنها تقبل في يسر كل التراكيب التي تجعلها صالحة للتعبير عن أغراضها ، وفيها التدرج والاختلاف الدقيق في المعاني ، وفيها المدركات الفلسفية الدقيقة ، وفيها جميع أنواع التعبيرات الأدبية السامية الرفيعة من شعر هومر الطنان الرنان إلى نثر أفلاطون الهادئ الواضح السلس. وتعزو الرواية اليونانية المتواترة إدخال الكتابة في بلاد اليونان إلى الفينيقيين في خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد ، وليس لدينا ما ينقض هذه الرواية ، بل إن بين الكتابات اليونانية التي ترجع إلى القرنين الثامن والسابع وبين الحروف المنقوشة على حجر مؤاب في القرن التاسع تشابهاً كبيراً.
من ذلك أن النقوش اليونانية كتبت على الطريقة السامية من اليمين إلى اليسار ؛ وفي القرن السادس كانت (كالنقش الذي وجد في جورتينا Gortyna) تنقش من اليمين إلى اليسار في أحد السطور ثم من اليسار إلى اليمين على الدوام ، واستلزم هذا قلب وضع الحروف فصار حرفاً B ، E يكتبان هكذا B ، E. كذلك سميت الحروف بأسمائها السامية مع تعديلات طفيفة ، ولكن اليونان أدخلوا على هذه الأسماء تغيرات أساسية ، أهمها أنهم أضافوا إليها حروفاً للحركة لا نجدها عند الساميين ، فاستخدموا بعض الحروف السامية الساكنة ، وحروف التنفس لتمثيل الحركات التي تدل عليها u,o,i,e,a وأضاف الأيونيون فيما بعد حروف المد إيتا eta (e الممدوة) ، أومجا o-mega (لتمثل o الممدوة أو o المزدوجة).
وأخذت عشر أبجديات يونانية مختلفة ينازع بعضها بعضاً ، فكان هذا النزاع جزءاً من الحروب القائمة بين دول- المدن ؛ وتغلبت الحروف الهجائية الأيونية في بلاد اليونان ثم انتقلت منها إلى أوربا الشرقية وبقيت فيها إلى اليوم ، أما رومة فقد اتخذت الحروف الكلسيدية Chalcidian من كومي وهي التي أصبحت الحروف اللاتينية والحروف الإنجليزية. وكانت الأبجدية الكلسيدية ينقصها حرف الـ e والـ o الممدودان ، ولكنها فعلت ما لم تفعله الأبجدية الأيونية فاستبقت vau الفينيقية حرفاً ساكناً (وهي الـ v التي يقرب نطقها من نطق حرف w) ؛ ومن أجل هذا كان الأثينيون يسمون النبيذ oinos والكلسيديون يسمونه voinos والرومان يسمونه vinum والإنجليزية يسمونه wine. كذلك استبقى الكلسيديون حرف koppa أو q وانتقل منهم إلى روما ثم إلى اللغة الإنجليزية ؛ أما أيونيا فقد أهملته واكتفت بحرف k وكتبت أيونيا حرف l بهذه الصورة A ، أما كلسيز فقد كتبته l؛ وعدلت رومة هذه الصورة الثانية فجعلتها معتدلة، وانتقلت منها على هذا النحو إلى أوربا؛ وكتب الأيونيون حرف R كما نكتب نحن حرف P ؛ أما إيطاليا اليونانية فقد أضافت إلى P فأصبحت R.
والراجح أن أولى الأغراض التي استخدمت فيها الكتابة في بلاد اليونان كانت هي الأغراض التجارية أو الدينية ، ويبدو أن الرقى والتعاويذ التي كان يتلوها القساوسة هي مبدأ الشعر ، وأن ما يكتب في أوراق شحن السفن كان بداية النثر. ثم انقسمت الكتابة نوعين مختلفين أحدهما دقيق منتظم للنقوش وما إليها ، والثاني هي الكتابة الدارجة التي تستخدم في الأغراض اليومية العادية. ولم يكن في كلا النوعين نبرات ، ولم يكن يترك بين الكلمات فراغ ، ولم تكن فيها علامات ترقيم ؛ فإذا أريد الانتقال من موضوع إلى موضوع دلوا على ذلك بشرطة فاصلة أفقية يسمونها برجرافون Paragraphon أي علامة "تكتب إلى ناحية" ، وكانت المواد التي تكتب عليها متنوعة فكانت في بادئ الأمر ، إذا جاز لنا أن نأخذ بقول بلني ، أوراق الأشجار أو لحاءها ؛ فإذا أرادوا النقش استخدموا الحجارة أو البرونز أو الرصاص. وكانوا يستخدمون للكتابة العادية ألواح الطين كما كان يفعل أهل ما بين النهرين ، ثم استخدموا ألواحاً من الخشب تغطيها طبقة من الشمع ، وكانت هذه شائعة بين التلاميذ قبل أيامهم ؛ فإذا أرادوا أن يكتبوا شيئاً يبقى أمداً طويلاً استخدموا أوراقاً من البردى كان الفينيقيون يأتون بها من مصر ؛ وفي العهد الذي انتشرت فيه حضارة اليونان في خارج بلادهم ، وفي العهد الروماني ، استخدم الرق المصنوع من جلود المعز و الضأن أو أغشيتها الرقيقة ، وكانوا يكتبون على ألواح الشمع بقلم معدني ، وعلى ورق البردى والرق بقلم من الغاب يغمس في الحبر ، وكانت الكتابة على الشمع تمحى بنهاية القلم المعدني السميكة ، أما الحبر فكان يمحى بقطعة من الإسفنج ؛ ولذلك أرسل الشاعر ماريتال إلى صديق له قطعة من الإسفنج مع قصائده لكي يمحوها "بضربة واحدة". وإن كثيراً من النقاد في هذه الأيام ليحزنهم أن هذا الأدب الجم لم يبق له الآن وجود. وليس ثمة ميدان وصلتنا من الألفاظ القديمة بالكثرة التي وصلتنا من ميدان الكتابة. فكلمة ورق بالإنجليزية paper مأخوذة من اسم نبات البردى papyrus ، وقد أعادت دورة الفلك الطراز القديم لصنع هذه المادة من النبات المضغوط. وكان السطر من الكتابة يسمى باليونانية stichos أى صفا ، وكان اللاتين يسمونه versus أي عودة إلى الوراء ، ومنها اشتقت كلمة verse الإنجليزية.وكانوا يكتبون ما يريدون في صورة أعمدة على قطعة من ورق البردى أو الرق طولها من عشرين قدما إلى ثلاثين تلف حول عصا. وكانوا يسمون هذا الملف ببلوس biblos ، وقد أخذوا هذا الاسم من المدينة الفينيقية المعروفة بهذا الاسم والتي كانت تمد بلاد اليونان بالورق المصنوع من نبات البردى.
أما الملف الصغير فكان يسمى ببليون biblion. وكان الكتاب المقدس (bible) يسمى في أول الأمر biblia أي الملفات. فإذا كان الملف جزءاً من كتاب أكبر منه سمي tomos أي مقطعاً. وكان الجزء الأول من الملف يسمى بروتوكولون protocollon: أي الشريحة الأولى الملتفة بالعصا. وكان طرفا العصا يصقلان بحجر الخفاف ويلونان أحياناً ؛ وكان الملف يوضع أحياناً في غشاء يسميه اليونان diphthera ويسميه اللاتين vellum، إذا استطاع مؤلفه أداء ما يلزم ذلك من النفقات ، أو كان ما كتب فيه ذا بال. وإذ كان من غير الميسور تداول الملف الكبير أو استخدامه في المراجعة ، فقد كانت المؤلفات الأدبية تقسم عادة إلى عدة ملفات، وكانت كلمة biblos تطلق على كل ملف أو جزء من كتاب كبير. وقلما كان المؤلف نفسه هو الذي يقسم كتابه هذا التقسيم. فقد كان الناشرون المتأخرون هم الذين قسموا تواريخ هيرودوت إلى تسعة كتب ، وكتاب توسيديدس في حرب البلوبونيز إلى ثمانية ، وجمهورية أفلاطون إلى عشرة ، و الألياذة و الأوذيسة إلى أربعة وعشرين جزءاً.
وإذ كان نبات البردى غالي الثمن ، وكانت كل نسخة من الكتاب تكتب باليد ، فقد كان عدد الكتب قليلاً عند اليونان والرومان الأقدمين. وكان التعلم في تلك الأيام الخالية أيسر منه في هذه الأيام ، وإن يكن كسب الذكاء في الزمن القديم لا يقل صعوبة عن كسبه اليوم. ولم تكن معرفة القراءة ميزة عامة عند الأقدمين ، ولذلك كان معظم العلم يؤخذ بالتلقين من جيل إلى جيل أو من صانع إلى صانع ، وكان معظم الأدب يتلوه بصوت جهوري قراء مدربون على أشخاص يتعلمونه بالسماع. ولم يكن في بلاد اليونان قبل القرن السابع جمهور كبير من القارئين ، ولم تكن في البلاد دور كتب قبل أن يجمع بوليكراتس Polycrates وبيسستراتس مكتبتيهما في القرن السادس. فلما كان القرن الخامس بدأنا نسمع عن وجود مكتبة خاصة ليوربديز وأخرى للأركون يوكليدز Eucleides ؛ ثم سمعنا في القرن الرابع عن مكتبة أرسطاطليس. ولم نسمع عن وجود مكتبة عامة قبل مكتبة الإسكندرية ، كما لم نسمع بوجود مكتبة في أثينا قبل أيام هدريان. ولعل عظمة اليونان في أيام بركليز كان مرجعها إلى أن اليونان لم يكونوا يقرؤون كتباً كثيرة أو يقرؤون أي كتاب طويل.